دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

“قيصر”.. في مواجهة “الرئيس-الملك”

بشار جرار – واشنطن

في عالم ما قبل الفضائيات، لم يكن للأردنيين أي خيار سوى البثين السوري والإسرائيلي. كون عمان منطقة جبلية، كانت شبكات التلفزيون الهوائية محدودة القدرة على التقاط ما هو أبعد وقد نصبت بعناية فوق سطوح المباني التي لا ينبغي لها أن تزيد على أربع طبقات في العاصمة الأردنية لغايات التنسيق والجمال العمراني.
مشاعر متباينة عاشها أبناء جيلي إزاء الفارق الصارخ الصادم بين ما يبثه الجاران خاصة عند مقارنتها فيما يبثه الداخل والأهم الواقع المعاش في ربوع المملكة الأردنية الهاشمية التي ما كانت لتكون في حدودها وهيئتها الراهنة لو لم يغدر الحلفاء وبخاصة البريطانيون بالشريف الحسين بن علي ولم يرفض الفلسطينيون والعرب نصيحة الملك المؤسس عبد الله الأول بالقبول بقرار التقسيم بين العرب واليهود في فلسطين التاريخية.
الفارق الصارخ لم يكن فقط في الحريات الصحافية وهي النافذة التي يطل علينا من خلالها الجاران. الفارق الصادم كان أيضا بمستويات المعيشة لا بل بمحتوى الأحلام التي يبشر فيها قادة المجتمعين الجارين وما يصدر عن حكومتي الجوار وبرلمانهما من تصريحات بعضها لا يخفي عدائيته.
وعلى اختلاف نتاج الماكنة الإعلامية لكلا الجارين، إلا أن المنتج الواقعي كان دامغا لا يفسح المجال أمام البروباغندا مهما بلغت قوتها. ثمة فارق بين النظامين السياسيين وأمور كثيرة، لكن أكثرها استفزازا للفضول هو لماذا لم تتعطل برامج التنمية والديموقراطية في جارنا الغربي فيما تعطلت لدى جارنا الشمالي باسم معركة التحرير – تحرير الأرض والإنسان كما زعموا في كثير من الدول العربية والإسلامية. ومن ألم واقع الجوار كنت أتساءل كأردني عن سر تناحر البعثين الجارين في العراق وسوريا وتحالفهما مع جزر بعثية نائية ليس في الجوار اللبناني فقط وإنما بعيدا صوب الغرب في موريتانيا! أي وحدة وحرية واشتراكية هذه التي سمحت بتحويل رؤساء البعثين إلى ملوك بدساتير صورية يتم تعديلها على عجل بإيماءة قبل رفع الأيدي؟ أي نظام هذا الذي يسمح بهزات عنيفة بدأت برفعت الأسد وانتهت برامي مخلوف وما بينهما من منتحرين بفتح الحاء أو كسرها من رجل المخابرات السورية في لبنان غازي كنعان إلى رئيس الوزراء السوري الأسبق محمود الزعبي؟
حتى التعامل مع الإرهاب الإسلامي المتمثل بسحق الإخوان المسلمين في حماة، لا يمكن اتساقه مع تعامل الدولة السورية مع الإرهاب الإسلامي الداخلي والخارجي على الساحة السورية والذي – لأسباب عدة – سرق احتجاجات السوريين السلمية ضد قمع لا يشكك فيه عاقل أو صاحب ضمير سوي.
لقد وقع صاحب القرار الأمني في المقام الأول في خطأ مميت كان أو من اقترفه الرئيسان المصريان الراحلان جمال عبد الناصر وأنور السادات. اللعب بورقة الدين لا ينتهي إلا بالكوارث سواء أكان ذلك لأسباب داخلية أو خارجية. الخطأ نفسه وقع فيه بداية الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عندما اضطر على ما يبدو إلا استخدام هذا السم الزعاف ضد قائدة الثورة الإيرانية الخميني. ومن ثم أوغل في “تديين” السياسة بعد هزيمته النكراء في الكويت ومن بعد إسقاط نظامه كرئيس وكحزب.
ورغم الدروس المتكررة، وقع صاحب القرار الأمني في سوريا في الخطأ عينه فكانت رعايته للإرهاب باسم دعم المقاومة والممانعة في الجارين العراقي واللبناني وإلى حد أقل الجار البعيد – الذي غدر لاحقا – في غزة حماس. فات صانع القرار الأمني والسياسي أيضا أن اللعب بالنار في العراق ولبنان والتحالف مع إيران لن يمر بسلام حتى إذا وصلت النار إلى درعا سواء على نحو طبيعي أو مفتعل، تحول الخطأ إلى خطيئة ولم تعد روايات القمع تعتمد على الهمس في المجالس الخاصة بل صارت صورا صاخبة بالدم والنار على مرأى ومسمع العالم كله.
هذه هي قصة “قيصر”، المصور في الجيش العربي السوري الذي قام بتسريب آلاف الصور التي تظهر حجم التعذيب وسوء ظروف التوقيف والسجن لآلاف مؤلفة من الناس -لنقل أن منهم من يستوجب الإدانة والسجن- ولكن قطعا لا يجوز لأي كان تعذيب روح أي روح حتى وإن كانت لحيوان.
بعد زلزال مخلوف وأجزم بأن له هزات ارتدادية لن تمر بسلام سوى في حالة واحدة سأخلص إليها بعد سطور، أقول بعد هذا الزلزال، تلوح للدكتور بشار حافظ الأسد بصفته الإنسانية، فرصة ذهبية غير قابلة للتكرار. “أبو حافظ” أمام مفترق طرق: إما الإقرار بأن ظاهرة مخلوف ما كان ينبغي لها أن تكون لو كان النظام أمينا على شعاراته في الوحدة والحرية والاشتراكية، وإما أن يصر على التعامل مع رأس الجبل الجليدي فقط كما هو الحال فيما استجابته لحالة ضرب تلاميذ المدرسة الابتدائية وإهانة وتعذيب أهاليهم في درعا، شرارة الحرب السورية (الأهلية في سوريا أو العالمية على سوريا – التاريخ سيثبت حقيقة ما جرى).
في حال الاختيار الصحيح، ينتظر السوريون من على جانبي الحرب، مكاشفة ومراجعة شاملة شفافة لما يخص قضايا الفساد الحلقة الوسطى بين الإرهاب والقمع. فالطبيب الناجح يحسن التشخيص ليعزز فرص العلاج والشفاء.
قانون قيصر في ظل الإدارة الراهنة في البيت الأبيض والتي ما زلت أرجح أنها باقية لأربع سنوات أخرى، يفسح المجال أمام التغيير الحقيقي وكسب المعارك الثلاثة: محاربة الإرهاب الذي في جوهره يتطلب محاربة للفساد وللقمع. فهل يختار الأسد التعامل مع قيصر كرئيس أم كملك أم كرئيس-ملك؟ هذه فرصة لتنازل طوعي عن عرش الملكية والاكتفاء بولايتين رئاسيتين متوجتين بكسب معارك سوريا التاريخية الثلاثة منذ غابت شمس العهد الفيصلي، حيث توالت على دمشق نكبات القمع والفساد والإرهاب. رسالة قيصر: “كش ملك” يا سيادة “الرئيس”!

الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي د. بشار جرار – أوغاريت بوست