دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – الإعلام القطري وفلسفة الأذى

سياسات الهدم لم تكن لتنفع ولم يكن بوسع تنظيم مثل الإخوان المسلمين الذي ظل إعلام قطر يصدح باسمه وظل هو يختفي وراءه إلا أن يحيق الأذى بهذه المجتمعات.

إعلام متخبط
يبحث الإعلام القطري عن هوية جديدة. ولكنه ما يزال يتخبط. فلسفة الأذى التي اعتمد عليها لنحو عقدين من الزمن، وتحديدا منذ نشأة قناة الجزيرة في العام 1996، قامت على إطار تحريري يقصد التأجيج والتحريض وإلحاق الضرر المعنوي وإثارة النزاعات وصولا إلى ضرب “القنادر” داخل الأستوديوهات وخارجها.

هذا هو النموذج. ولقد خلق جيلا من المحررين الذين لو أعطيتهم دستة حبوب “فاليوم”، فإنهم لا يهدأون. كانت لديهم مهمة. ولقد أدوها أفضل أداء، حتى اندلعت حروب أهلية، فلماذا يتخلون عنها؟

اصطف الإعلام القطري خلف حركة الإخوان المسلمين، ولو أنكر ذلك. وعمد إلى السخرية والاستهانة بكل المشاريع الفكرية والسياسية الأخرى. هذه المشاريع نفسها كانت عليلة، وكان اصطيادها و”شرشحتها” أمرا لا يحتاج إلى كفاءات خارقة. إلا أن توظيف “الشرشحة” كان يقصد الأذى، ليس بتلك المشاريع، وإنما بالمجتمعات العربية نفسها.

شيء لا يمكن التغافل عنه هو أن وسائل الإعلام القطرية أخرجت “المصموت” أو “المسكوت عنه” وحولته على صخب. وضعت في أعلى الطاولة ما ظل تحتها لعقود طويلة. وأسقطت الإعلام الرسمي؛ “إعلام الطبلة” الذي يُطبل للحاكم. ولكنها طبّلت لما لا يقل سوءا عنه. طبّلت للهمجية السياسية. طبّلت للأذى. وتحولت إلى ناطق شبه رسمي لتنظيم الإخوان المسلمين.

لا تحتاج هيئات تحرير الإعلام القطري إلى دستة حبوب “فاليوم” لتهدأ. تحتاج فقط، أن تسحب القطب السالب، لتُعقلن النظرة

لم تنظر في مناهج هذا التنظيم. لم تدقق في تاريخه. لم تحاكم هذا التاريخ برؤية نقدية جادة، لترى ما إذا كان يصلح بديلا. إلا أنها قدمته كوسيلة من وسائل صنع الأذى. لا تحتاج إلى “نظرية مؤامرة” لكي تربط بين هذه الوجهة وبين توجهات “المحافظين الجدد” في الولايات المتحدة الذين تصدرهم ديك تشيني ودونالد رامسفيلد ومراكز أبحاث واشنطن التي روجت لسحق العالم العربي، وتفكيكه وإعادة بنائه، بعد إعادته إلى عناصره الأولى كقبائل وطوائف ومجموعات متصارعة. لا تحتاج إلى نظرية كتلك. ولكن التزامن بين الوجهتين كان لافتا بحد ذاته.

اكتسب الإعلام القطري شهرته من قدرته على تحويل الإثارة الإعلامية إلى إثارة سياسية، وهذه إلى صراعات أهلية. أجهزة إعلام الطبلة بقيت تعيش موتها السريري بدافع التمويل الرسمي. ولكن في بيئة شقت طريقا آخر للترويج السياسي. سوى أن هذا الترويج بقي سطحيا من ناحية الفكر. لأن غايته اقتصرت على الإثارة. على صنع طبلة جديدة تقرقعُ بصوتٍ أعلى من صوت الطبلة.

الهزيمة تحققت لهذه الإثارة انطلاقا من هزيمة مشروع التخريب والفوضى. حقق هذا المشروع جانبا من أهدافه، باحتلال العراق، وانتحار سوريا، وشنق اليمن على عمود انقلاب الحوثي، ودفع تونس ومصر إلى حواف الإفلاس الاقتصادي. إلا أنه انكسر في النهاية. كسرته مصر أولا، بتجريد تنظيم الإخوان من السلطة. وهزمته تونس، بإضعاف مواقع حركة النهضة، قبل عزلها. ولكن هزيمته الأهم حدثت في دول الخليج، التي لم يهتز استقرارها ولا بقيد أنملة. أظهرت أنظمتها تماسكا فذا، لثلاثة أسباب على الأقل. الأول، لأنها لم تكن أنظمة أيديولوجية لكي يمكن أن تتأثر بعواصف الصخب، فأظهرت مناعة ذاتية، لم يفهم صانعو فلسفة الأذى أسبابها، ربما حتى الآن. بل ربما لأنهم لم يفهموا أسباب استقرار النظام القطري نفسه. والثاني، لأنها ظلت أنظمة بناء وتنمية وعمل، كل بحسب ما يتوفر له من قدرات. والثالث، لأنها قامت في الأساس على توافقات اجتماعية زادت رسوخا مع تراكم عائدات الثروة.

هذه الهزيمة، سبقت مصالحة العلا بين قطر و”دول المقاطعة”، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، مطلع العام 2021. ما جعل هذا الاتفاق، من الناحية الإعلامية على الأقل، تحصيل حاصل.

دخلت دول المقاطعة تلك المصالحة من واقع الرغبة بإنهاء صدع لم يعد من المفيد أن يستمر. واقعيا، كانت فلسفة الأذى قد أعلنت إفلاسها، لو من دون اعتراف معلن.

بدأ التغيير في وجهة الإعلام القطري، من زاوية ضيقة جدا، حتى بدت وكأنها تحاول أن تحشر جملا من أدوات التحريض السابقة، في ثقب إبرة، عنوانه التغاضي عن توجيه الانتقادات الصارخة ضد تلك الدول. وهو ما يعني أنه لم يكن تغييرا في الرؤية. وإنما حجبا لها عما كانت ترى في السابق.

لهذا السبب فقد ظلت ماكينات الأذى تشتغل ضد البحرين، قبل أن تتراجع قليلا إلى الوراء مؤخرا. ولكنها ما تزال تشتغل بأقصى طاقتها ضد تونس حتى الآن، وكأنها تريد أن تنتقم لهزيمة مشروع الإخوان كله.

سياسات الهدم لم تكن لتنفع. ولم يكن بوسع تنظيم مثل الإخوان المسلمين، الذي ظل إعلام قطر يصدح باسمه، وظل هو يختفي وراءه، إلا أن يحيق الأذى بهذه المجتمعات

هيئة تنظيم الاتصالات الإماراتية قررت رفع الحظر عن وسائل الإعلام القطرية ومواقعها، في نوع من التأكيد على أن أصداء الصخب صارت ترتد من تلقاء نفسها. ولكن أيضا في نوع من التأكيد على أن المصالحة جديرة بأن تفرض ثقافتها الإعلامية الخاصة. تفرض نفسها كوسيلة تخاطب، تتحرر من الضغائن، وتكبر على الأذى، وتبني لما هو أفضل.

قرار رفع الحظر مؤشر إيجابي على أن مسار العلاقات الخليجية – القطرية يمضي في الاتجاه السليم. وهو مسار يأخذ بـ”الإيجابية” والصواب السياسي، لدعم مشاغل أخرى، عنوانها التنمية الاجتماعية والرفاه، وحسن توظيف الثروات.

الإمارات لم تطلب شيئا من قطر لكي تعدل سياساتها الإعلامية. منحتها كل الوقت لكي ترى ما كان يجب أن تراه منذ البداية. وهو أن مجتمعاتنا إذا كانت بحاجة إلى إعادة بناء سياسية شاملة، فإنها بحاجة إلى تنمية اجتماعية؛ بحاجة إلى تنمية ثقافية، بحاجة إلى تعليم، واستقرار اجتماعي، وليس إلى هدم اجتماعي. وهذه كلها لا تتحقق من دون أن يتوفر الخبز أولا.

ماذا جنى المجتمع العراقي من انهيار هويته الوطنية لحساب هويات طائفية متصارعة؟ ماذا جنت سوريا من انهيار حتى المخادعات الوطنية نفسها التي كانت تفرض ولو اشتراطات شكلية على السلوك العام؟ ماذا كان يمكن لمصر أن تجني عندما يكتشف نحو عشرة ملايين قبطي مصري أنهم صاروا غرباء في بلدهم؟

سياسات الهدم لم تكن لتنفع. ولم يكن بوسع تنظيم مثل الإخوان المسلمين، الذي ظل إعلام قطر يصدح باسمه، وظل هو يختفي وراءه، إلا أن يحيق الأذى بهذه المجتمعات.

هيئة تنظيم الاتصالات الإماراتية فتحت بابا للتسامح. إنه دعوة غير مباشرة لتغيير فلسفة الأذى.

لا تحتاج هيئات تحرير الإعلام القطري إلى دستة حبوب “فاليوم” لتهدأ. تحتاج فقط، أن تسحب القطب السالب، لتُعقلن النظرة.

علي الصراف – كاتب عراقي – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة