دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

رأي – الأسد الغائب الحاضر في قمّة بغداد

قمة بغداد، في وضع العراق الحالي، هي قمّة طهران، فهي المهندس الذي يرتّب كل شيء، وأي خطوة يتقدمها الأسد خارج حدود سوريا في بلد عربي، ستكون مكسبا كبيرا.
في الفلك الإيراني
عُقدت قمّة بغداد للتعاون والشراكة، ولم يحضر الأسد، فهل غاب الملف السوري حقّا كما يحاول العراق القول؟ من يراقب كيف طار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان إلى دمشق على الفور بعد انتهاء أعمال المؤتمر حاملا مخرجاته معه لن يفهم هذا. ولن يغيب عن الانتباه تعمّد عبداللهيان إلقاء كلمته باللغة العربية، رغم ركاكتها، والوقوف في صف الرؤساء لا في صف وزراء الخارجية في الصورة التذكارية، وتشديده على ذكر ما سمّاها الجمهورية العربية السورية “الشقيقة”، وكأنه يقول للزعماء الحاضرين إن هذه الدولة العربية باتت هي الأخرى تحت ظل الإمبراطورية الفارسية، إضافة إلى استفزازاته المتكررة للعرب والمشاركين جميعا، بالإشادة بقاسم سليمان ورفيقه المهندس اللذين حسبما قال ارتكبت الولايات المتحدة جريمة قتلهما.
أيضا، لا يمكن لمن راقب التردّد الدولي في دعوة رئيس النظام السوري بشار الأسد لحضور مؤتمر بغداد الإقليمي للتعاون والشراكة، إلا أن يتذكّر ذلك التمنّع الذي أبداه والده حافظ الأسد حين وجّه إليه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين دعوة لحضور القمة العربية في بغداد في مايو 1990. حينها وجد الأسد نفسه بمواجهة استحقاق مبدئي، وهو الذي رفع شعار الدفاع عن الأمّة العربية، واعتاش عليه طيلة فترة حكمه، مستغلا حاجة الدول العربية إلى ذلك الخطاب آنذاك لضمان أمنها، رفض الأسد دعوة العراق، لا بسبب الخلاف العقائدي بين جناحي حزب البعث اللذين حكما العراق وسوريا في تلك الفترة، بل لأنه كان يعرف أن هناك عاملا سيقف عائقا أمام حضوره “الداعم” للعراق فيما لو حضر. إنه العامل الإيراني.
كان النظام السوري ولم يزل أحد أهم حلفاء إيران، في الحرب العراقية – الإيرانية كانت بضائع المصانع السورية، من السمن والمناديل ومختلف المواد الغذائية تختفي من الأسواق السورية، لكنها كانت تصدّر إلى إيران بالمجّان فيأتي بها المهرّبون الإيرانيون لبيعها في سوريا مجددا بأسعار خيالية. هذا عدا عن الدعم العسكري والاستخباري الذي قدّمه الأسد لإيران ضد الشقيق العربي، العراق.
اليوم تلفت الأنظار مواقف بعض الدول التي دعت قبل فترة إلى نوع من الانفتاح على نظام الأسد، بينما رفضت بشدّة حضوره قمة بغداد. فما الذي تبدّل؟ لا شيء.. إنه العامل الإيراني ذاته.
العرب يريدون سوريا بعيدة عن إيران، وقمّة بغداد، في وضع العراق الحالي، هي قمّة طهران، فهي المهندس الذي يرتّب كل شيء، وأي خطوة يتقدمها الأسد خارج حدود سوريا في بلد عربي، ستكون مكسبا كبيرا، لكن هذه المرّة سيكون ذلك المكسب هديّة مغلّفة بالعلم الإيراني. وهذا ما لا يريده العرب.
تسويق الحالتين العراقية والسورية بمعاييرهما الحالية هو نوع من التواطؤ مع المشروع الإيراني في المنطقة وهذا ما لا يسمح به فهناك حدود للحركة غير المسموح للأسد بتجاوزها
رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي حاول جاهدا إقناع الآخرين أن “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” سيكون “حدثا مهما للعراق والمنطقة بأكملها”، ولم يقل كيف؟ والمحور الذي تحكمه إيران وتسميه محور المقاومة، يغرق كل يوم في الظلام أكثر من اليوم السابق. الفساد والمشاريع المعطّلة والفوضى والدمار والجريمة والتشظي. كل تلك العوامل، هي النموذج الذي يريد مؤتمر بغداد الترويج له، وبيعه لشعوب المنطقة والعالم.
وحتى حين زعم الكاظمي أن المؤتمر سيعزّز من “دور العراق التاريخي في إرساء السلام”. فهو إنما كان ينكأ جراحا عديدة لم تُشفَ بعد، فأي دور تاريخي لبلد عربي محكوم بالعمائم الحاقدة على العرب والتي تقرّر مساره من خلف الحدود؟
خيرا فعل عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي، النائب عامر الفائز حين كشف الخبايا قائلا “لم توجّه الدعوة للنظام السوري إلى الآن، ولكن على ما يبدو أن العراق يحاول حاليا إقناع بعض الدول كفرنسا والسعودية والإمارات من أجل تصفية الأجواء وإقناعهم بمشاركة النظام”. فلماذا ترفض هذه الدول حضور الأسد؟
تسويق الحالتين العراقية والسورية بمعاييرهما الحالية هو نوع من التواطؤ مع المشروع الإيراني في المنطقة، ومع رؤية خامنئي والحرس الثوري للمستقبل، وهذا ما لا تسمح به تلك الدول، فهناك حدود معقولة للحركة على رقعة الشطرنج، ومن غير المسموح للأسد بتجاوزها.
وكثر الجدل حول دعوة الأسد وعدم دعوته، حتى قام رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض بنقل الدعوة بنفسه للضيف الثقيل لحضور قمة بغداد، خلال لقائه به في دمشق. إلى أن حسمت وزارة الخارجية العراقية الأمر ببيان رسمي، نفت فيه تقديم دعوة إلى الأسد لحضور اجتماع القمة موضحة أن “الحكومة العراقية تؤكد أنها غير معنية بهذه الدعوة، وأن الدعوات الرسمية تُرسل برسالة رسمية وباسم رئيس مجلس الوزراء العراقي”، مشيرة إلى أنه “لا يحق لأي طرف آخر أن يقدم الدعوة باسم الحكومة العراقيّة، لذا اقتضى التوضيح“. ولعله كان من الطبيعي أن يوجّه رئيس ميليشيا الحشد الشعبي الدعوة للأسد بنفسه، فهذا هو التعامل الدبلوماسي المناسب، وربما كانت رتبة الاثنين في الهيكل الإيراني متطابقة.
تغيب سوريا عن المؤتمر؟ قد يحدث هذا في المستوى المعلن، كما يحاول وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين التبرير، لكن نقاشات تحت الطاولات جرت، حملها معه عبداللهيان إلى الأسد، وقد تحوّل الشأن السوري إلى ملف مكتوم، بعدما كان الثقل العربي الذي تمثله سوريا قادرا على تعديل كفتي الميزان في مطلع التسعينات، ورفض الأسد الأب تقديمه، تهافت الأسد الابن اليوم على حضور قمة في نفس المكان في عاصمة الرشيد الذي لم يقصّر في إرسال الإرهابيين والمتطرفين عبر الحدود، ليزيد من مرارة الغزو الأميركي للعراق مرارة ودماء وفوضى، تكريسا لحكمه ولاستعمال أمن العراق كورقة ضغط على الولايات المتحدة والدول الغربية، فما أشبه اليوم بالبارحة، إلا أن الفارق في موقفي الأسدين، على تقاطع كيديتهما، يظهر جليا أين وصل الأسد بمكانة سوريا في العالم العربي ودورها الإقليمي والدولي.

إبراهيم الجبين – كاتب سوري – العرب اللندنية
المقالة تعبر عن رأي الكاتب والصحيفة