دمشق °C

⁦00963 939 114 037⁩

د. مهيب صالحة: قد نشهد كارثة اقتصادية ما لم تعيد الحكومة النظر في سياساتها الاقتصادية

أوغاريت بوست (مركز الأخبار) – مع اقتراب موعد بدء تنفيذ العقوبات الأمريكية الاقتصادية على الحكومة السورية، والتي تعرف بـ “قانون قيصر”، شهدت الليرة السورية انخفاضاً تاريخياً جديداً، متأثرة بجملة من الأسباب الداخلية والخارجية، إلا أن تهديد “قيصر” له حصة الأسد في هذا الانهيار الجديد لليرة، فيما يتساءل السوريون عن مدى تأثير هذه العقوبات على المواطنين، وهل ستنج في تحقيق أهدافها السياسية. ورغم أنها تستهدف المؤسسات الحكومية، بالإضافة للمتعاملين معها، إلا أن خبراء الاقتصاد يؤكدون أنه ستكون لها آثار سلبية على الاقتصاد السوري المنهمك أصلاً، نتيجة الحرب المدمرة في البلاد منذ ما يزيد عن 9 سنوات، ودون شك فإن المواطن سيدفع فاتورةً مأساوية، حيث سيواجه المزيد من سوء الحالة.

حول ذلك أجرت شبكة أوغاريت بوست حواراً مع الأكاديمي والخبير الاقتصادي، د. مهيب صالحة، الذي أوضح أنه سيكون لقانون قيصر تداعيات كبيرة على الاقتصاد السوري، و سوف يحدّ من أي مصالح للشركات والمؤسسات الأجنبية في الاقتصاد السوري في المستقبل.

وفيمايلي نص الحوار الكامل مع أستاذ الاقتصاد والأكاديمي، د . مهيب صالحة:

–  ما هي الأسباب الحقيقية لهذا الانهيار السريع للعملة السورية ؟

يتعرض الاقتصاد السوري لهزة عنيفة قد تتحول إلى كارثة اقتصادية ما لم تعيد الحكومة النظر بسياساتها الاقتصادية التي أدت إلى تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأجنبية بمعدلات غير مسبوقة خاصة خلال الأشهر الماضية ، وبصفة خاصة قيام البنك المركزي بالمضاربة على الدولار وشفطه من السوق، والتوقف عن تأمين حاجة السوق المحلية من العملات الأجنبية، واعتماد الحكومة سياسة تعدد أسعار الصرف للاستفادة من فروقات الأسعار بزيادة احتياطيات البنك المركزي من القطع الأجنبي لمواجهة تداعيات قانون سيزر ومرحلة التسويات السياسية. ويوعز البعض تدهور سعر الصرف إلى الوضع الاقتصادي الحرج في لبنان وجائحة كورونا، ولكن باستعراض مسلسل تدهور سعر صرف الليرة نلاحظ أن بدايته كانت قبل شهرين من انطلاق ثورة لبنان، وبداية الحديث عن تعويم الليرة السورية، وقبل أزمة كورونا بستة أشهر .

واجهت السوق المحلية اختناقات أدت إلى ارتفاع مستوى الأسعار بمعدلات غير مسبوقة نتيجة تدهور سعر صرف الليرة والعقوبات المفروضة على التجارة الخارجية. كما تأثرت بمنع التعامل مع رجال أعمال سوريين ومنع تحويل الأموال إلى سورية، واضطرار هؤلاء اتباع أساليب مكلفة للتحويل وفتح الاعتمادات المصرفية. ولم تمنع سياسة الحكومة ترشيد الاستيراد من إغراق السوق المحلية بالسلع الكمالية المستوردة بسبب تفلت السوق من أية رقابة، وتفشي الفساد في الدولة.

منذ ستينيات القرن الماضي يعتبر لبنان، ولا سيما قطاعه المصرفي،  بمثابة الملاذ الآمن للتعاملات السورية التجارية والمالية الدولية من أية عقوبات اقتصادية غربية، ونافذة سورية الاقتصادية المفتوحة على العالم الخارجي، ويتعزز هذا الدور في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية الأخيرة ومنها قانون سيزر. وتكفي الإشارة هنا إلى حجم ودائع السوريين بالدولار في المصارف اللبنانية التي تجاوز خمسين مليار دولار، علاوة عن أموال السوريين في الخارج التي تتجاوز مائة مليار دولار على أقل تقدير. ولو كانت هذه الأموال أو نصفها مودعة في الجهاز المصرفي السوري لكانت حافظت على ثقة المتعاملين بهذا الجهاز، وساندت سعر صرف الليرة، وسهلت العمليات التجارية والمالية الدولية رغماً عن قانون سيزر أو أية عقوبات اقتصادية أخرى .

لقد ترافق التحول من سياسة سعر الصرف المدار بالتدخل المباشر من قبل مصرف سورية المركزي بسوق الصرف إلى سياسة تعويم سعر الصرف مع بدء المصارف اللبنانية في تقييد بيع الدولار في شهر آب /أغسطس/ ٢٠١٩ ومنع المودعين من سحب مدخراتهم بتلك العملة مما أدى إلى بداية انهيار سريع لسعر صرف الليرة اللبنانية، وبداية انهيار سريع لسعر صرف الليرة السورية في تموز / يوليو ٢٠١٩ ، حيث تجاوز سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء حائط ٦٠٠ ليرة / للدولار ثم استمرت سلسلة الإنهيارات بتجاوز حائط ألف ليرة بنهاية كانون الثاني / يناير ٢٠٢٠ وحائط ١٦٠٠ ليرة في شهر أيار / مايو من العام نفسه. وصاحب هذا التدهور بسعر صرف الليرة ارتفاع أسعار السلع والخدمات بمستويات غير مسبوقة تهدد معيشة ٨٠ % من السكان في الداخل بالإنهيار السريع والمميت قبل دخول قانون سيزر حيز التنفيذ .

لم يقتصر الأمر على أن الدولار أصبح غالي الثمن بشكل متزايد، إنما لم يعد أيضاً بمقدور القطاع المصرفي اللبناني تنفيذ طلبات المستوردين السوريين المالية من حساباتهم المحجوبة. ويؤدي انخفاض القوة الشرائية في لبنان بسبب تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إلى تهريب السلع السورية المحلية إلى لبنان فتزداد أسعار هذه السلع في السوق المحلية بسبب نقص الكميات المعروضة .

إذن سبب انهيار سعر الصرف يعود لتفاعل ثلاثة عوامل أساسية ، سياسة الحكومة تجاه سعر صرف الليرة، والأزمة الاقتصادية في لبنان ، وأزمة كورونا . ولكن يبقى الأهم في هذا الموضوع هو توجه الحكومتين السورية واللبنانية إلى تعويم عملتهما الوطنية في الوقت الذي يتطلب المزيد من تدخل الدولة للحفاظ على استقرار وحدة النقد ومواجهة استحقاقات المرحلة الصعبة .

ـ كيف سيؤثر “قانون قيصر أو سيزر” على الاقتصاد السوري ؟

مما لا شك فيه أن لقانون سيزر والعقوبات التي تضمنها تداعيات كبيرة سواء على الدولة السورية واقتصادها ، أو تجاه الدول والأشخاص الطبيعيين والاعتباريين الذين يتعاملون معها واقتصاداتهم. وهذا القانون سيكون له تبعات كبيرة على التعاملات الدولية التجارية والمالية والمصرفية والاستثمارية، وعلى سعر صرف الليرة السورية، في الأجل الطويل، ولكن آثاره قصيرة الأجل ستكون أقل خطورة . فالحكومة السورية ستحاول الاستفادة من علاقتها بالحكومة اللبنانية، وربما أقل بالعراقية، لتخفيف تأثيرات عقوبات سيزر فيما يتعلق بالأموال المحجوبة وتحويلات السوريين في الخارج وتمويل بعض المستوردات الضرورية . ومن المرجح أن يتأثر أكثر كل من سعر الصرف والمعاملات الدولية في حال استمرت الحكومة السورية بسياساتها النقدية التعويمية واشتدت الأزمة اللبنانية مقارنة بقانون قيصر .

لكن في الأجل الطويل فإن قانون قيصر سوف يحدّ من أي مصالح للشركات والمؤسسات الأجنبية في الاقتصاد السوري في المستقبل ،  ويرجح أن يؤدي القانون إلى وأد الفرص المحدودة المتبقية لإعادة الإعمار على نطاق واسع من قبل الشركاء الدوليين للحكومة السورية ، روسيا والصين وإيران . فقد نص القانون على ملاحقة شركات من روسيا والصين مثلاً، تربطها بالمؤسسات السورية علاقات أعمال تجارية ومالية واستثمارية ، وهي المؤسسات الخاضعة لعقوبات و/أو ناشطة بقطاعات معينة.

إن العقوبات المالية هي النوع الأخطر من العقوبات، إذ أنه يتم وقف منح القروض والمساعدات المالية وتجميد الحسابات وتوقف الاستثمار المباشر وغير المباشر، ومعاقبة الشركات الأجنبية التي تتعامل مع النظام، وحتى المصارف المحلية لا تستطيع التعامل مع المصارف الأجنبية، وبالتالي هي نوع من شل الحركة بشكل شبه كامل. كما تؤدي العقوبات إلى تقييد حركة مصرف سورية المركزي وتجميد الأرصدة السورية وإيقاف التبادل التجاري الحكومي، الأمر الذي يترك آثاراً سلبية على الاقتصاد، ولاسيما على الاستثمار  والتصدير والبطالة وأسعار الصرف والتضخم ..

ومن جانب آخر ستتعرض القطاعات الإنتاجية والخدمية من نقص مستلزمات إنتاجها بسبب العقوبات المفروضة على الاستيراد، وارتفاع أسعارها لأنها ستلجأ إلى تأمينها وتمويلها بطرق ووسائل غير معتادة وعالية التكاليف . علاوة عن الصعوبات في إقامة المشروعات الاقتصادية والأعباء الكبيرة التي ستلحق بها بسبب العقوبات. وأكبر المتأثير بالعقوبات هو قطاع النفط والطاقة لأنه سيكون في المرحلة القادمة بحاجة ماسة لإعادة تجديد كاملة، والعقوبات الأمريكية ستحول دون ذلك. ولا تستطيع روسيا تحمل تبعات خرقها للعقوبات، كما ليس بإمكانها تأمين احتياجات إعادة تأهيل هذا القطاع وبشكل خاص المنتجات التكنولوجية. وسيكون هذا القطاع الأكثر إيلاماً للحكومة من الناحية الاقتصادية لأن العقوبات تحرمها أهم مصدر للقطع الأجنبي وتمويل الميزانية. يليه القطاع الزراعي الذي رغم الاعتماد الكبير عليه لا تزال سورية تستورد معظم مستلزماته الإنتاجية ووسائل إنتاجه. إلى جانب تأثر القطاع الصناعي وقطاع الخدمات بهذه العقوبات وللأسباب ذاتها بالرغم من عدم ذكرها صراحة في القانون كما قطاع النفط والغاز والمنتجات البترولية نظراً لأهميته بالنسبة للسياسة الأمريكية في سورية وخصوصاً كونها تسيطر على ٧٠ % من المنشآت النفطية السورية في منطقة الجزيرة .

ـ ما هي الاجراءات التي يمكن اتخاذها لإنقاذ الاقتصاد السوري ؟

تتطلب مواجهة العقوبات الاقتصادية من الحكومة السورية تغيير نهجها الاقتصادية من خلال :

١ ـ تنويع الاقتصاد السوري وزيادة مرونته، واعتماده على الموارد المحلية والتقليل إلى حد كبير من انكشافه على الخارج خاصة فيما يتعلق بتأمين عوامل ومستلزمات الإنتاج. ودعم القطاعات الإنتاجية التي تساهم بشكل مباشر في تأمين السلع الغذائية الأساسية، ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة الإنتاجية .

٢ ـ استغلال الموارد المحلية المادية والبشرية والطبيعية والمالية والإنتاجية للتقليل ما أمكن من الاعتماد على الخارج، وكذلك تحريك عجلة الإنتاج الزراعي ودعم المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والقطن، والإنتاج الصناعي الذي يعتمد على المدخلات الوطنية.

٣ـ إلغاء عقود استثمار القطاعات المنتجة للدخل مع القطاع الخاص، وتحويلها إلى هيئات استثمار عامة تخضع لرقابة ومحاسبة حكومية صارمة .

٤ـ فرض ضريبة تصاعدية لدعم الليرة على الثروات الكبيرة التي تتجاوز عشرة ملايين ليرة في السنة، تبدأ بمعدل ٥% وتصل إلى ٢٠% والعمل على تطبيق ضريبة القيمة المضافة .

٥ـ رفع سعر الفائدة على الودائع الوطنية بالليرة السورية تدريجياً من ٨% حتى تصل إلى ١٥% وخلال ستة أشهر فقط .

٦ـ قبول واسترداد الودائع بالعملات الأجنبية وبفائدة تزداد تدريجياً خلال ستة أشهر من ٢% حتى تصل إلى ٥ %

٧ـ طرح سندات وأذونات خزينة بالليرات السورية وبالدولار مدتها من سنة وحتى عشرين سنة بمعدلات فائدة متزايدة حسب طول مدة الاستحقاق ومكفولة بضمانات عقارية من أملاك الدولة. وسندات مؤبدة الزامية للذين أثروا على حساب الشعب السوري طيلة العقود الماضية .

٨ـ تشجيع المصارف التجارية والمتخصصة على منح قروض استثمار متوسطة وطويلة الأجل بالعملة المحلية وبالعملات الأجنبية لتمويل استيراد الآلات والتجهيزات والمواد الأولية في مجالات إنتاجية وخدمية تحددها الحكومة .

٩ـ تمويل المستوردات من السلع والخدمات الأساسية بالقطع الأجنبي من المصرف المركزي وبالسعر الرسمي حتى يذوب الفارق بينه وبين سعر السوق. وتشجيع الصادرات بمنحها ميزات تنافسية بسعر الصرف .

١٠ـ الرقابة الحكومية على أسواق السلع من حيث الكميات والنوعيات والأسعار، والتشدد بمحاسبة المخالفات التموينية .

إن هذه الخطوات التنفيذية، برأيي، كفيلة بزيادة الاحتياطي من العملات الصعبة، وتحسين الثقة بالجهاز المصرفي، وزيادة الاستثمارات الإنتاجية، وتحسين الكفاءة الاقتصادية والفنية. ومع تحسين أداء الحكومة الاقتصادي والمالي والإداري بزيادة جرعات محاربة الفساد الإداري والمالي في أداء مؤسسات الدولة واعتبار الشفافية أساس عملها الذي على أساسه تتم محاسبتها، تستطيع الدولة مواجهة العقوبات والتصدي لتداعياتها الاقتصادية، تمهيداً لمرحلة سياسية واقتصادية جديدة .

ـ هل يمكن أن يدفع “قانون قيصر” الأطراف السورية وخاصة الحكومة للحل السياسي للأزمة ؟

يُجمع المحلّلون على أن أخطر ما تَضَمَّنَهُ قانون سيزر، هو الفترة الزمنية الطويلة، أي عشر سنوات، ورغم أن لدى واشنطن خبرة كبيرة في تطبيق هكذا قوانين، إلا أن جوهره السياسي يبقى الأساس في مجريات تنفيذه لأن الغرض منه تغيير سلوك النظام السوري وليس تغييره، وسيكون للقانون تأثير متفاوت وفقاً لتقدم العملية السياسية، ومدى استجابة النظام وحليفيه روسيا وإيران للضغوطات التي ستمارس عليهم بموجب القانون .

ومما لا شك فيه أن المسألة السورية باتت على أعتاب المرحلة الأخيرة، وأن التسوية قادمة لا محالة، فالعالم لا يمكن أن يتحمل عواقب استمرار الصراع السوري الداخلي، الذي ربما يتحول، إذا استمر لفترة أطول، إلى صراع دولي وإقليمي . وإذا كان القانون على غاية من الخطورة  ويؤدي إلى عزل سورية وحلفائها ما لم يغيروا اتجاه سيرهم، فإنه في مثل هذه الحالة من المتوقع دائماً حدوث مفاجآت تدفع الجميع إلى قبول تسوية سياسية وفق القرار الأممي ٢٢٥٤ ، الذي ساهمت روسيا الحليف الأقوى للنظام في إعداده والتصديق عليه في مجلس الأمن .

وفي حال رفض النظام وحلفاؤه العملية السياسية وفق القرارات الأممية وأصروا علب فرض رؤية أحادية الجانب لشكل وجوهر التسوية السياسية، بالانطلاق من خبرتهم في مواجهة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، فإن القضية الأصعب والأهم ربما تكون في مرحلة إعادة الإعمار حيث من الصعوبة بمكان ايجاد شركة أو مؤسّسة تجازف بخرق العقوبات وتحدي إرادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها .

في هذه الحالة سيواجه النظام تحديات واستحقاقات اقتصادية كبيرة ومهمة من أجل تخفيف حدة العقوبات أوتعطيل تداعياتها، وانقاذ الاقتصاد الوطني من السقوط، لأن قانون سيزر يختلف هذه المرة عن العقوبات السابقة وفي الوقت ذاته تختلف البيئات والظروف الدولية الراهنة عن سابقاتها . وستكون المواجهة شديدة الوطأة على النظام وعلى الشعب السوري، دون تجاهل وجود من سيعمل، من داخل النظام، على الاستفادة من العقوبات، وربما يقوم بعرقلة برامج مواجهتها

حوار: رزان الأيوبي